من يصنع الحروب
"من يصنع الحروب"
"نص مسرحي"
"نورالدين فيصل الصغير"
لم يحرقوا عناقيد الكروم وسط الأزقة الخاوية، حيث اللون الأخضر يُغطي جدران الأقبية، يرجع جندي من حرب الدماء التي لا زالت قائمة على الحدود؛ لا بل دخلت المدن وصارت وسط أكوام البيوت الضاحكة يطيل النظر إلى المتسلق العشبي على باب الدار...
لم يحقق هدفه، ولا طموحه، ولا أمانيه إلا أمنيةً واحدة عندما كان في سن العاشرة وأصابته الحمى أخذه والده إلى الطبيب؛ كانت أمنيته أن يكون مثل ذلك الطبيب الذي كان ضمن فريق الأسعاف في الجبهة...
يُحاكي باب الدار عن بطولاته وكيف أنقذ هذا وذاك حتى يُطرق الباب ويخرج رجل
(ترفع الستارة)
يقف عند الباب ينظر إليها ويأخذ بالتكلم:
_أنهكتني الحرب يُدير رأسه نحو الجهة اليسرى ويُشير بأصبعه هنا كنا نلعب، هنا كانت أرواحنا جميلةً قبل أن نكبر، لم نكن نعرف أن المسافات بين الأيام قد تنهكنا إلى هذا الحد ثم يطيل النظر الى الباب ثانية ويُكمل:
_لقد تحقق حلمي بأن أكون طبيبٌ وأنقذ أرواح الناس؛ لكني أخفقت بالكثير لم أستطع أن أنقذهم جميعهم..
فيبكي ويضع يده على رأسه،
_فلان قال قبل أن تغادره روحه إلى الفشق: انه يرى إبتسامة طفلته في السماء بين أكوام السحاب، وآخرٌ ظل مُمسِكٌ بيدي حتى فاضت روحه فيأخذ يرتعش ثم يجثو على ركبتيه،
_فلا فلان فقد عاهدته أن أوصل هذا المكتوب إلى عائلته ولكنني أخلفت،
فيسأل نفسه بلومِ لعدة مرات لماذا أخلفت، لماذا أخلفت، لماذا أخلفت؟ فيُجيب:
_أخلفت لأن العدو حال بيني وبينهم ولم أستطيع أن أصل لهم "فيخرج من جيبه ورقة" ثم يقف ويقول مجددًا:
_أين السلام الذي يتخبطون به مسؤولينا (ثم ينظر يمين يسار ويصرخ في وجه الباب) ويقول : أين السلام (يكررها لمرتين ثم يعود للتكلم بهدوء وتروي)
_لقد قال لي النقيب فلان: بأن الجيش سوف يدخل المنطقة المنشودة (يبتسم) لكن كان يهدء من روع الجنود أنا أعرف حيل الجيش (يضحك)
فيسكت ثم يتقدم نحو الباب يطرق الباب دق، دق، دق فيفتح الباب ويخرج رجلٌ كبير السن لحيته بيضاء الرجل: أهلًا يطيل النظر إلى الرجل،
ثم يناديه الرجل: بني هل لي أن اساعدك بشيء،
يهز رأسه ثم يبتسم ويقول:
_أهلا يا عم
_أهلًا بك بُني
_أنا العريف فلان، من الكتيبة الفلانية، كنت ضمن فيلق ولدك فلان...
فيجيبه الرجل بإندهاشٍ،
_وأين ولدي الآن؟!
_ ولدك كان شجاعٌ ضروس، وصعب المراس
الرجل تظهر عليه علامات غريبة ولهفة
_أين هو؟
_لقد بعث برسالة لك
الرجل يبدأ بالتخبط،
_أوه تفضل أدخل إلى الداخل يا بُني
_المعذرة ولكن لا أستطيع
_ حسنًا، أين الرسالة إذًا؟
_لقد أحترقت عندما رميت حقيبتي لكي يتسنى لي القفز من فوق الجسر
فيعمف الرجل حاجبيه بإندهاش ويقوله لهُ،
_حتى الرسالة لم تسلم من النيران لكن أين هو؟
يُنزل العريف رأسه إلى الأرض ويُجيب
_من يصنع الحروب؟
هل أنت من صنعها، هل أنا؟
كلنا نُريد أن نعيش هنا لكن لا يسمح لنا لماذا؟
لأن هناك أعداء،
فيقاطعهُ الرجل قبل أن ينهي كلامه،
_لماذا هناك أخيار، وصالحين؟
_سالت دمائنا من أجل أن يعيش قائدنا المُعظم وأهل بيته؛ لكن هو لم يفكر بأمي التي تركتها منذ ردح طويل أو فيك أنت؛
(فيرد الرجل بصوت جهوري، مخيف
_نحن من يصنع الحروب ونزج بأولادنا إلى آتون الحرب، ونقذف بجماجمهم إلى الشوارع ونشرب دمائهم ونستعمل جلودهم ونقدمهم قربانًا إلى حظرة الوالي.
فيقاطعهُ الجندي وهو يبكي بحرقةً،
_ولكنه قبل رحيله سلمني ورقة كتب عليها إلى أبي العزيز،
الرجل بإندهاش وتعجب:
_وهل عرفت فحواها؟!
_لا، فقد أستعجلته وألقيت به على الأرض بعدما كان رأسه الشريف على صدري ثم ركضت نحو الجسر لأعبره حتى صادفتني نيران العدو ولن أجد طريقًا للعبور؛ فقذفت بالحقيبة وقفزت من الجسر فسمعت خلفي الرسالة وكأنها تناديني وتبلغني السلام.
ظهرت على الرجل ملامح الحزن،
_عرفت منذ الأمس بأن ولدي قد أنتصر دمه على البندقية عندما صرخ الديك كأنه يريد قول شيء،
شعر الجندي بأسفٍ شديدٍ فأردف:
_لم أوصل رسالاتهم أجمع.
يسود المسرح الظلام،
تخف الأضواء، يختفي الرجل، تُغلق الباب
فيرفع رأسه نحو السماء قائلًا:
_هناك نجوم ضاحكةً ورديةٌ، وبيضاء تُزين السماء العالية؛ فلماذا نقاتل ولماذا هذهِ الدماء لماذا هناك اسلحة؟!
ُكمل وهو ينظر إلى الباب
_ألم يشاهدوا جمال القمر، ألم يروا الأشجار كم هي زاهيةً، ألم يروا الأبقار ألم يروا الأنهار ...لماذا؟!
فيرفع رأسه نحو السماء ثانية،
_أني أراك بين النجوم لماذا؟
يجلس عند الباب ويضع رأسه على الباب ..يمدد رجليه،
_لماذا لا نستطيع حل الأزمات، والمشاكل إلا بالبندقية فلقد قرأت مزرعة الحيوان وعرفت بأن هناك عدو يريد السلطة يريد أكل مخزوننا وأخذ كل أشيائنا الجميلة لكن لا تزهق ارواحٌا لم ترى الغد بعد
يضع رأسه بين ركبتيه ويستمر،
_أشعر بإرواحهم حولي في كل مكان اشعر بفلانٌ، وفلانٌ وفلان...
هناك أمطار، الأمطار جميلة
هناك شتاء/ الشتاء جميل
والأجمل كوب القهوة،
ينهض ويقف ويضع يديه خلف ظهره ويتمشى يذرع المسرح ب خطواته المنهكة _هناك ربيع، الربيع جميل وخريفٌ أيظًا يقف ويبتسم،
_عندما تنتهي الحرب يرجع الأحياء، الأموات إلى منازلهم أما الآخرين فينظرون من ألاعلى حيارى ينظرون بؤس القادة وعبيد الخوذة؛
يجلس على الأرض وينظر إلى السماء _أراكم تركضون؟
فينام على الارض ويضع يديه على صدره ويكمل متسائلًا:
تُرى كيف ستكون نهايتي .. هل تكون مع ذاتي، أم مع النقيب فلان، أم مع أمي؟.